أعياد لبنان تلفظ أنفاسها الأخيرة.. “ميلاد” الفقر والبيوت الحزينة
كتبت فرح منصور في “المدن”:
لم تطرق الفرحة أبواب اللبنانيين هذا العام. فقد حلّ عيد الميلاد وسط أزمة اقتصاديّة أدت إلى موت الليرة، وتبخّر المداخيل، وتضخّم الأسعار. وعلى الرغم من تزيين بعض الشوارع والساحات، غابت المنافسة السنوية بين المدن تحت عنوان “أكبر شجرة” و”أجمل زينة”. وبسبب الأوضاع الاقتصادية المترديّة خلت المحال التجارية من اكتظاظ الزبائن للتبضّع وشراء لوازم الزينة والهدايا، واكتفوا بتأملّ الأسعار بخيبةٍ.
أسعار جنونيّة
في جولة على متاجر الألعاب وزينة الميلاد، نجد أنّ أسعار شجرة الميلاد تُحسب بالدولار، أو على سعر الصرف اليومي. وتبدأ من 900 ألف وصولاً إلى 3 ملايين ليرة. أمّا الأشجار الطبيعية فصغيرة الحجم بطول 60 سم، وسعرها 40 دولاراً، و100 دولار للحجم الكبير بطول 180 سم. وإذا كنت بحاجة لتزيين شجرتك بالطابات الملونة، فيبلغ ثمن 3 طابات 75 ألفاً أو 90 ألف ليرة. ويختلف سعر نجمة الشجرة تبعاً لنوعها وحجمها، وتتراوح بين 50 ألف ليرة و75 ألفاً. والإضاءة الكهربائية تختلف تبعاً لعدد اللمبات وطول السلك الكهربائي، وتتراوح بين 70 و100 ألف ليرة. وبعد أن كانت أوراق المغارة تقدّم هدية من أصحاب المتاجر، تباع اليوم الورقة الواحدة بـ15 ألف ليرة. أما تماثيل المغارة فتباع بـ113250 ليرة. وإذا قمنا بإجراء عملية حسابية صغيرة نُلاحظ أنّ تكلفة تزيين شجرة الميلاد مع المغارة تصل إلى 6 ملايين ليرة لبنانية للشجرة الكبيرة، وبين مليوني ليرة وثلاث ملايين للشجرة الصغيرة والمتوسطة الحجم.
وتؤكّد سابين لـ”المدن” -وهي صاحبة أحد المتاجر في منطقة الأشرفية- أن نسبة المبيعات تراجعت بشكلٍ ملحوظ. فمعظم الزبائن يقصدون محلها لشراء اللمبات الكهربائية للشجرة فقط بسبب احتراقها. وتعود أسباب بيعها أشجار الميلاد الصناعية بالدولار الأميركي، إلى تجنبها الخسارة. فهي تستوردها من خارج لبنان وتختلف أسعارها تبعاً للطول والنوعية والمصدر. فبعض الأشجار غير متينة وتتعرّض للكسر بسرعة ولا تستعمل سوى لعامٍ واحدٍ. وسابين كباقي التجّار، لم تستورد أي بضاعة جديدة، بل عرضت زينة العام الماضي وغيّرت أسعارها لتتماشى مع ارتفاع سعر الدولار. وتأتي عائلات إلى محلّها برفقة أطفالها، باحثين عن شجرة صغيرة وزينة خفيفة تُناسب جيوبهم، وتُرضي أطفالهم. ويظهر الإحراج على وجوههم لحظة إصرار صغارهم على شراء شجرة، ليفاجأوا بأنّ سعرها يتعدّى المليون ليرة. فيحاولون إقناع الصغار باختيار غيرها.
عشاء الميلاد بالملايين
اعتادت ريتا كرم على تجديد زينة بيتها في كل عام خلال موسم الأعياد. وهي ربّة منزل في العقد الخامس. وفي أواخر تشرين الثاني من كل عام، تقصد السوق لشراء هدايا الميلاد، واقتناء موديلات مميزة للزينة، ولتحضير أطعمة عشاء العيد: “أنتظر الميلاد بشغفٍ، وهو يوم مميز لأجتمع مع أفراد عائلتي وعائلة زوجي لتناول العشاء التقليديّ معاً”، تقول. وتتابع: “يصل عددنا إلى 30 شخصاً. وكانت المائدة تضم أصنافاً متنوعة ومتميزّة لتدل على قدسية هذا اليوم: الديك الرومي (الحبشة) هو الطبق الرئيسي وإلى جانبه الأرز وننثر فوقه الكستناء والمكسّرات المتنوعة. ونضيف طبقاً آخر من اللحوم أو الدجاج. وأنواع من الأجبان (الحلوم، الشيدر، القشقوان..) مع الحبش المدخّن. أما السلطة فيجب أن تكون مختلفة عن باقي الأيام، وتحتوي جميع أنواع الخضار. وتشكيلة من المعجنات الجاهزة. ولا ننسى النبيذ المعتّق. وبعد العشاء نحتسي القهوة ونوزّع الشوكولا، ونأكل كيك جذع الشجرة ونتبادل الهدايا”.
وبغصةٍ تضيف: “هذا العام مختلف كثيراً”. فهي ذهلت من ارتفاع الأسعار. فالحبشة الفارغة التي يبلغ وزنها 6 كيلو يتعدّى سعرها 420 ألف ليرة، أما الجاهزة فوصل سعرها إلى 150 دولار. كيلو الكستناء 165 ألف ليرة، والمكسرات تتراوج أسعارها بين 170 و220 ألف ليرة. وحين جالت في قسم الأجبان، وجدت أنها بمبلغ 50 ألف ليرة تستطيع شراء 200 غرام من جبنة الشيدر فقط.
وأمام هذه الأسعار الخيالية، قررت تحضير عشاء اقتصادي لأسرتها الصغيرة فقط. وألغت تجمع العائلة، قائلة: “سأشتري حبشة صغيرة وأحضّر الأرز وأتخلى عن المكسرات والكستناء. ولأن المعجنات الجاهزة باهظة الثمن، سأحضر فطائر صغيرة بالزعتر فقط. فكيس الزعتر متوفر في بيتي. وطبعاً سأتخلى عن الأجبان بأنواعها وعن الحبش المدخّن. وسأكتفي بتحضير وعاء من سلطة البندورة والخيار والخس. وسأستبدل كيك جذع الشجرة الذي وصل سعره إلى 600 ألف ليرة بطبقٍ من الحلوى بمكونات متوفرة في منزلي. وبعد انتهاء العشاء لن نتبادل الهدايا بسبب الأسعار، وسأعطي أحفادي 50 ألف ليرة فقط”.
هدية من البالة
أما جويل فترى أن بهجة العيد ولمّة العائلة تختفي تدريجياً. وهي متزوجة، في منتصف العقد الثالث، وأم لطفلين. تعمل في شركة للمحاسبة وتتقاضى مليوني ليرة، وزوجها موظف حكومي يتقاضى مليوناً ونصف المليون. وقصدت متاجر الزينة لشراء شجرة جديدة، بدلا عن شجرتها القديمة التي كسر جذعها البلاستيكي، ولكنها فوجئت بأسعارها، فوضعت شجرتها بوعاء من البورسلان وغطّت الكسر بورق المغارة. العام الماضي لم تستطيع الاجتماع مع عائلتها بسبب جائحة كورونا، بينما هذا العام فلن تجتمع مع عائلتها بسبب الضائقة المادية. ستحضر المجدّرة مع السلطة عشية عيد الميلاد ليومين، فهي غير قادرة على شراء الحبشة وباقي الأصناف. واستبدلت النبيذ الأحمر بظرفٍ من عصير الليمون الصناعي، فسعر النبيذ يتراوح بين 100 و220 ألفاً، بينما عصير الليمون بـ5000 ليرة. وتخلت عن الأطباق المتنوعة التي كانت تعدّها، فرواتبهم لا تكفي لدفع إيجار منزلهم ودفع إشتراك الكهرباء.
وتقول: “ينتظر أطفالي عيد الميلاد ليحصلوا على هداياهم من “بابا نويل” الذي نتفق معه ليطرق بابنا عند منتصف الليل. اعتادت عائلتي الكبيرة على تبادل الهدايا بين الكبار والصغار وسط أجواء من العاطفة والحب. منذ عامين أهديت شقيقتي هاتفاً خلوياً بـ250 دولاراً أي 375 ألف ليرة سابقاً، بينما اليوم الـ375 ألف ليرة لا تكفي لشراء كيلو من الدجاج وقنينة من الزيت لقليه! كنا نقدم الهدايا لأفراد العائلة بلا استثناء، ولكني بعد أن جلتُ في الأسواق رأيت أسعاراً مخيفةً، فتراجعت. لعبة الفتيات ثمنها يتعدى 750 ألف ليرة، أما السيارات الكهربائية فسُعّرت بالدولار الأميركي، ووصل البعض منها إلى 200 دولار. فقصدت البالة واخترت قطعتين من الثياب لأطفالي فقط.
في الانهيار المالي لم تعد فرحة العيد على حالها، بل باتت غصة ولوعة في قلوب الأهالي العاجزين عن تأمين أدنى احتياجات أطفالهم.