خارطة الطريق للوصول إلى التوافق الحقيقي

كتب د. ميشال الشماعي في “نداء الوطن”:

يوماً بعد يوم تتبلور أكثر صورة المجلس الجديد. ولقد بات واضحاً أنّ الأكثريّة الوحيدة الحقيقيّة الموجودة فيه هي الأكثريّة السياديّة التي صوّتت بـ38 صوتاً للنائب زياد حوّاط في انتخابات أمانة سرّ المجلس. بينما الحديث عن أكثريّة من 65 صوتاً ما هو إلا عمل تنسيقيّ من مايسترو يمتلك كلّ الوسائل التي تبدأ بالترغيب وقد لا تنتهي بالترهيب. والبقيّة مجموعات تحاول إثبات ذاتها في صلب المعركة الكيانيّة.

ومن البديهي كبادرة حسن نيّة من الفريق الذي بدا صلباً ومتماسكاً في اليوم الانتخابي الأوّل أن يطلق العجلة الدستورية بدءاً بمشاورات للتكليف والتأليف الحكومي. والمواضيع التي ستطرح لن تكون بسيطة مع هذه الإنقسامات. لكن لا يمكن طرحها إلا من خلال تظهير مايسترو سيادي يقبض على الحركة السياديّة بوجه «حزب الله» الذي يقود الفريق الحاكم بهدف تثبيت تحكّمه بالدولة.

من هنا أتى طرح حكومة الأكثريّة التي وحدها تستطيع مواجهة هذه المرحلة. ولا يعني ذلك تغييب الحوار. فالحوار موجود بين الأفرقاء كافّة داخل المؤسّسات لا سيّما في المجلس النيابي. وهذا ما يجب أن يقود إلى نقاش هادئ وهادف في هذا المجلس لمقاربة الطروحات كافّة، ومن قبل الأفرقاء كلّهم. وذلك لأنّ حكومات الوفاق والإئتلاف تحت ذريعة ممارسة الديمقراطيّة التوافقيّة بتغليب من سلاح «حزب الله»، نجحت بتحويلها إلى ديمقراطيّة تعطيليّة شلّت البلاد والعباد وأوصلتنا إلى هذه الدركات. الديمقراطيّة التوافقيّة تطبّق في بلد تعدّدي تكون المساواة فيه قاعدة هذا التوافق. لا عندما يكون هنالك فريق، وأعني هنا «حزب الله» بالتحديد، مسلّحاً ويمارس تسلّطه على غيره وعلى بيئته أوّلاً. المطلوب تحقيق المساواة التي لا تكون إلا باقتناع «حزب الله» بضرورة انخراطه في الدّولة. وبالطبع ليس بنزع سلاحه بالقوّة لأنّ القوّة لا تستجلب إلا مثيلاتها على قاعدة الآية: «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!»

فلا يمكن بعد اليوم الاستمرار في لبنان على هذه الحالة إلا بعودة الحياة إلى الدّولة من خلال عودة الدّولة إلى الحياة. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر حكومة أكثريّة تتولّى المسؤوليّة، وتُراقَب وتُحاسَب من المعارضة في المجلس النيابي. وهذا لا يعني بالطبع غياب الحوار؛ بل ذلك يحتّم الحوار من داخل المؤسّسات التي نجحت الانتخابات النيابيّة بتمثيل الفرقاء كلّهم في المجلس النيابي. وبعد ذلك يُصار إلى استكمال تطبيق الطائف بدءاً بتطبيق اللامركزيّة الإداريّة والسياسيّة الموسّعة حتّى إلغاء الطائفيّة السياسيّة توصّلاً إلى تطويره بحسب مقتضيات المرحلة. وبعد ذلك كلّه بإمكاننا العودة إلى تطبيق التوافق في الحكم عبر حكومة توافقيّة. وليس العكس كما يدعو فريق «حزب الله» وبعض المفكّرين والصحافيّين الذين يدورون بفلكه. وذلك كلّه انطلاقاً من مبدأ الاعتراف بالآخر المختلف ورفض إلغائه، لأنّ الاختلاف مشروع لكنّ الخلاف ممنوع. وما من عاقل يدعو إلى تجاوز أيّ مكوّن حضاريّ في لبنان. وهذا يعني بالتمام والكمال احتراماً لمبدأ التوافق. لكن الخلاف في التطبيق. وأيّ تباين يترجم في التعاطي الديمقراطي السليم بين المعارضة والموالاة. وكلّ «هارموني» بينهما تصبّ في خدمة التوافق والوطن. من هنا تأتي الدّعوة إلى هذا التوافق وفق هذه الأسس والقواعد. وهذا ما سيوقف مفاعيل الالتفاف على الطائف التي نجح «حزب الله» وفريقه بفرضها بقوّة سلاحه غير الشرعي. وهذا ما يوضح أيضاً دعوته اليوم إلى التوافق والحوار كما يفهمه هو، تحت كنف احتفاظه بسلاحه الذي كما صرّح وقال إنّ اللبنانيّين تعايشوا معه، فليتعايشوا لسنتين إضافيّتين للتفرّغ إلى معالجة الاقتصاد. لكأنّ الأزمة في لبنان هي اقتصاديّة! في هذا التوصيف قلّة احترام لعقول النّاس ومحاولة لإيهامهم بأنّ الإشكاليّة الحقيقيّة تكمن فقط في الفساد والاقتصاد.

لا يا سادة، الإشكاليّة الحقيقيّة تكمن في وجود سلاح غير شرعي ينفّذ مفاعيل المحتلّ الذي يفرض شريعته وأيديولوجيّته على الشعب اللبناني كلّه. نحن تحت الاحتلال الحقيقي، لو مهما حاولوا تجميله بالمساحيق التوافقيّة. ولا حلّ في لبنان قبل عودة الحياة إلى الدّولة كما سبق وذكرنا آنفاً. وذلك لن يكون بتسويات تثبّت أعرافاً جديدة كما حصل في العام 2008. بل يكون بالعودة إلى الكتاب أي الدّستور، والدستور وحده كفيل بإرجاع الحياة إلى الدّولة.

إذا لم يقنع «حزب الله» بعد بنتائج الانتخابات، لا سيّما في قلب مجموعته الحضاريّة، فهو يستجلب راعياً إقليميّاً ودوليّاً لإعادة ما رفضه هو نفسه بقوّة التوافق والحوار المؤسّساتي. وحذارِ المزيد من إقحام لبنان في المتاهات الإقليميّة والدّوليّة التي لن ينقذنا منها إلا حياد بكركي الناشط والفاعل. وهذا وحده يبدّد المخاوف الجدّيّة التي يبثّها بعض الأوساط السياسية والدبلوماسية والأمنيّة من وجود جهات تحرّض على العودة إلى حرب أهليّة جديدة. لذلك، لا بدّ من الهدوء والتروّي والحوار والمناقشة والعمل من داخل المؤسّسات لأننا اكتفينا تسويات والتفافات على الدستور والمنطق العام.