بين التقدم التكنولوجي والأزمات الاقتصادية: مستقبل الذكاء الاصطناعي في لبنان

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد ابتكار تقني؛ إنه بوابة إلى مستقبل غير محدود. في السنوات الأخيرة، بدأ الذكاء الاصطناعي بتحويل عالم الطب إلى ما يشبه عالم الخيال العلمي، حيث أصبحت الآلات قادرة على رؤية ما لا تستطيع العين البشرية رؤيته، وتحليل البيانات الطبية بسرعة هائلة. هذه التقنيات تفتح آفاقًا جديدة في مجالات التشخيص والعلاج.

في لبنان، بدأ هذا الحلم التكنولوجي يتحقق ببطء، حيث شرعت بعض المستشفيات والمراكز الطبية في استخدام هذه التقنيات المتطورة. لكن، كما يحدث في البلاد التي تعاني من أزمات، واجهت هذه الثورة التكنولوجية عقبات كبيرة. فالأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد عام 2019 لم تكن مجرد أزمة مالية؛ بل كانت زلزالاً هزّ جميع القطاعات، بما في ذلك القطاع الصحي.

يقول اختصاصي المنتج والتطبيق محمود الحمود لـ “لبنان نيوز “: “كان الذكاء الاصطناعي على وشك دخول لبنان بشكل كبير، لكن الأزمة منعت ذلك. قليلون فقط استطاعوا إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المختبرات والمستشفيات الخاصة. تلك المستشفيات أدخلت نظامًا يشمل تقنيات موزعة على أقسام الهيماتولوجي، والكيمياء، والإيميونولوجي، التي كانت تتطلب في السابق من 8 إلى 10 أشخاص للعمل عليها. اليوم، يعمل عليها 3 أشخاص فقط، ولكن النظام ساهم بشكل كبير في تقليل الأخطاء البشرية التي لا يمكن للعين البشرية اكتشافها، وهذا ما يميز الذكاء الاصطناعي.”

في الماضي، كانت قراءة وتحليل تعداد الدم الكامل تمثل تحديًا كبيرًا للأطباء والمختبرات. فقد كانت العملية تتطلب وقتًا طويلاً ومجهودًا مضنيًا، حيث كان يجب كتابة وإضافة وتعديل العديد من التفاصيل بشكل يدوي. كان هذا الأسلوب يتطلب تركيزًا كبيرًا ويترك مجالًا للأخطاء البشرية. ولكن مع تقدم التكنولوجيا وظهور الذكاء الاصطناعي، تغيرت هذه العملية بشكل جذري.

اليوم، تقوم أجهزة الذكاء الاصطناعي بقراءة تعداد الدم الكامل بشكل آلي وسريع، حيث يتم إرسال تقرير مفصل حول حالة المريض بشكل مباشر، يتضمن تحليلًا دقيقًا للأمراض المحتملة مثل اللوكيميا، مع تحديد نسبة الإصابة وتقديم تعريف دقيق بالمرض في وقت قياسي.

لكن كيف يعمل الذكاء الاصطناعي في هذه العملية؟ أجاب الحمود: “يتم أخذ العينات من المريض وإدخالها إلى الماكينة. تُوضع العينات بطريقة معينة، حيث تتعرف الماكينة على الأنبوب وتأخذه إلى الجهاز المناسب المتصل بسكة من الحديد المشتركة بين أجهزة أخرى. إذا كانت هناك مشكلة في العينة، مثل كثافة الدم الزائدة أو وجود نسبة عالية من الدهون، تقوم الماكينة بإرسال إنذار للتقنيين. بعد ذلك، تقوم الماكينة أوتوماتيكيًا بقراءة الخلايا باستخدام الميكروسكوب وتحليلها بدقة عالية.”

على الرغم من الفوائد العديدة للذكاء الاصطناعي في تحسين دقة التشخيص وتقليل الأخطاء، هناك قلق من تأثيره على الأيدي العاملة في المختبرات. فقد أدت الأتمتة إلى تقليص عدد العاملين المطلوبين في بعض المختبرات، مما يثير تساؤلات حول مستقبل القوى العاملة في هذا القطاع.

يشير الحمود أيضًا إلى أن وجود الذكاء الاصطناعي في لبنان متأخر مقارنة بالخارج، وذلك بسبب تركيز القطاع الصحي في لبنان على المستشفيات الخاصة. يقول: “لو كانت هناك مستشفيات حكومية أكثر، لكانت الدولة قد لجأت إلى استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر. مع تزايد عدد المرضى الذين يتوجهون إلى المستشفيات الحكومية، ستضطر الدولة إلى إدخال نظام الذكاء الاصطناعي لتلبية احتياجات هذا العدد الكبير. هذا سيساهم في تقليل التكاليف، وتقليص الحاجة للموظفين، وتسريع العملية.”

من جهة أخرى، يجب التنويه إلى أن بعض المختبرات قد تروج لوجود الذكاء الاصطناعي كجزء من استراتيجيات التسويق. لكن، يجب الحذر حيث إن هذه الترويجات قد لا تعكس دائمًا حقيقة مستوى التقنية المقدمة.

أما فيما يتعلق بالتكنولوجيا الصينية، فقد أشار محمود الحمود إلى أنها اجتاحت السوق في الشرق الأوسط ولبنان بشكل خاص بطريقة ذكية. بعد أن كانت التكنولوجيا الصينية غير مقبولة في لبنان، أصبح السوق الآن يتقبلها بشكل أكبر بسبب تكلفتها الأقل مقارنة بالمعدات الأوروبية والأمريكية. أثبتت التكنولوجيا الصينية نفسها من خلال إدخال الذكاء الاصطناعي في الأجهزة الطبية، مما يعكس قدرتها على تلبية احتياجات السوق في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.

مع استمرار التحديات الاقتصادية التي تواجه لبنان، يبقى الذكاء الاصطناعي أداة حيوية لتحقيق تحسينات ملموسة في القطاع الطبي. رغم التحديات الكبيرة التي تحول دون تبني هذه التقنيات على نطاق واسع، فإن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في المجال الطبي يمثل خطوة هامة نحو مستقبل أكثر كفاءة ودقة في الرعاية الصحية. إذا تم تجاوز العقبات الحالية، قد يصبح الذكاء الاصطناعي عنصرًا أساسيًا في تطور النظام الصحي اللبناني، مما يساهم في تحسين الخدمات وتقليل التكاليف في آن واحد. إن الاستثمار في هذه التقنيات، حتى في أوقات الأزمات، قد يكون مفتاحًا لتجاوز التحديات وبناء مستقبل مستدام.