العمل البلدي على عكّازات التمديد
كتب عبدالله عبد الصمد في “نداء الوطن”:
متكئةً على عكازات التمديد، تصارع بلديات لبنان الأزمات كعجائز تخطّت عمرها الطبيعي، وما زالت تبحث عن أملٍ صعب المنال. فالمطلوب منها خدماتياً وأمنياً وتنموياً يتعدى قدراتها البشرية ومواردها المالية، فعمل بعضها على إنشاء «صناديق رديفة» يموّلها المحسنون وخصوصاً المهاجرين للصمود وكان الله يحب المحسنين والصامدين. «نداء الوطن»، جالت واستطلعت حال بلديات في قضاءي الشوف وعاليه تواجه وتعمل وتبتكر الحلول.
انفجار قيمة العملة الوطنية بعد العام 2019، وتشظي المداخيل الفردية الى فُتات لا تكفي لخبز حاف، ثم انهيار قيمة الإيداعات المالية للبلديات في المصرف المركزي، التي وصلت الى ما يقارب 1/60 من قيمتها الحقيقية، ثم تفاقُم مشكلة اللجوء السوري وما تتطلبه من تجهيزات لوجستية خاصة، بالإضافة الى عدة عوامل أخرى مرتبطة بتردّي الوضع الاقتصادي، جعلت بلديات لبنان تبحث عن مقومات استثنائية تضمن استمرارية عملها ولو باختزال.
أزمات متلاحقة جرَّت معها استقالات كثيرة في المجالس البلدية، حتى وصل عدد البلديات المنحلّة في لبنان حتى تاريخ كتابة هذه السطور الى 118 بلدية من أصل 1059 بلدية منتخبة في العام 2016 بحسب مصادر المديرية العامة للإدارات والمجالس المحلية، أي ما يقارب نسبة 11% من العدد الإجمالي، بينها ثماني بلديات في قضاء عاليه وستّ في قضاء الشوف. أما إذا احتسبنا عدد الأعضاء المستقيلين، ممن لم تؤدِ استقالاتهم الى حلّ مجالسهم البلدية، فعندها يتضخّم العدد أكثر. وهنا نشير إلى ان المجلس البلدي يعتبر محلولاً بفقدان نصف عدد أعضائه على الأقلّ، أكان بالاستقالة أو بالموت أو بإبطال العضوية.
الصيانة؟ إنسَ
المهندس هشام الفطايري رئيس بلدية الجديدة – بقعاتا قال إن «موازنات البلديات لم تعد تسمح بالإنفاق المطلوب في فصول عديدة من أبواب النفقات، كصيانة أو إنشاء الطرق العامة، وصيانة أو إنشاء شبكات الكهرباء وغيرها، فتضخُّم الأسعار الى أكثر من ستين ضعفاً بالعملة الوطنية، لم يعد يتوافق مع حجم الموازنات التي وصلت في أفضل حالاتها الى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة». فيما يرى المحامي إيلي نخلة رئيس بلدية الباروك أن»الدور التنموي للبلديات تعطَّل مع تفاقم الأزمة، وبات يقتصر عملها على تسيير الشؤون الإدارية كمعاملات المواطنين من رخص وإفادات وغيرها، والاهتمام بالطوارئ والضروريات، ما عدا بعض المشاريع التي تمولها جهاتٌ مانحة، ومبادرات فردية متنوعة».
ويبقى نقص الإيرادات هو العامل الأساسي الذي أدى الى شلّ البلديات عن القيام بدورها الرئيسيّ. ففي حين كان الصندوق البلدي المستقل يؤمن مصدر الدخل الأهم للغالبية العظمى من البلديات، تراجعت أهميته مع تبخُّر القِيَم الفعلية للحصص، وجاء تأخير تحويل الدفعات المستحقة للبلديات ليشكل الضربة القاضية لقدرتها المالية. فمع اقتراب نهاية العام 2023، وتحديداً في بداية شهر تشرين الأول حوّلت وزارة المال الدفعة الأولى عن العام 2021 الى مصرف لبنان، فالبلدية التي كانت تتقاضى حصة مقدارها مئة وخمسين مليون ليرة لبنانية عن الدفعة الواحدة، وكانت تعادل مئة ألف دولار أميركي، باتت لا تتعدى الألف وسبعمئة دولار أميركي. وللتوضيح، الصندوق البلدي المستقل هو الصندوق الوحيد الذي تُحوَّل إليه كل عائدات البلديات من الضرائب التي تجبيها الوزارات بشكل مباشر أو غير مباشر من المواطنين. يضاف إليها مشكلة تدني قيمة الرسوم البلدية، التي كانت تشكل مصدراً لابأس به من الدخل. فمع تقلّص هذين المصدرين أُفرِغَت صناديق البلديات قسراً
التنقيب عن بقعة أمل
«حتى نهاية العام 2022 كانت المشكلة أكثر تعقيداً من العام الحالي»، بحسب المهندس الفطايري، إذ «كانت البلديات تتقاضى الرسوم من المواطنين وفقاً للتسعيرة القديمة. فبلدية الجديدة- بقعاتا التي تضم 2800 وحدة سكنية و800 وحدة لغير السكن، كان مجموع مداخيلها سبعمئة مليون ليرة لبنانية سنوياً أو يزيد عنها بقليل. وحين أقرت الحكومة الزيادات الاستثنائية على الرواتب وبدلات الحضور، وصل مجموع المستحقات الشهرية لموظفي البلدية الى مئة مليون ليرة لبنانية شهرياً، وبات إجمالي المدخول السنوي عاجزاً حتى تغطية الرواتب. لذلك كان لا بدّ من البحث عن حلّ يوازن بين تلبية حاجات البلديات وقدرات المواطنين، فاجتمع عدد من رؤساء بلديات قضاء الشوف وقرروا رفع رسوم القيمة التأجيرية لتصبح عشرة أضعاف ما كانت عليه خلال العام 2019. أتى هذا القرار مستنداً الى قرار مصرف لبنان برفع سعر صرف الدولار من ألف وخمسمئة ليرة الى خمسة عشر ألف ليرة لبنانية. ثم تعمّم بشكل غير رسمي على جميع بلديات الشوف، فتم اعتماده من قبل الأغلبية الساحقة».
لجان محلية
وللحؤول دون تفاقم الأضرار التي قد تنتج عن عجز البلديات في صيانة أو توفير الخدمات الضرورية الملحّة، عمد بعضها، ومنها بلدية الجديدة – بقعاتا الى إنشاء لجان خاصة بالأحياء تهتم بالمشكلات الطارئة، كصيانة الطرق المضرّرة، وصيانة شبكة الصرف الصحي والإنارة العامة وغيرها بالتنسيق مع البلدية. على أن تتم الأشغال بتمويل مباشر من سكان الحيّ أنفسهم. فيما اعتمدت بلديات أخرى طرقاً مختلفة للتمويل، كبلدية الباروك التي أنشأت بالتعاون مع الأهالي صندوقاً خاصاً لدعم البلدية تغذّيه تبرعات أهالي البلدة، ويساهم في تنفيذ أعمال من خارج الموازنة.
وبطبيعة الحال، بقي الشق الإنساني الهمّ الأبرز للمجالس البلدية، ففي ظلّ هذه الأزمة برزت البلديات كصلة وصل لا بدّ منها بين لبنان المقيم ولبنان المغترب، فنجحت في مواضع عديدة في إدارة توزيع المساعدات المالية والعينية التي تدفّقت من الخارج من خلال استحداث صناديق رديفة تديرها البلدية خارج نظامها الماليّ. فبلدية عماطور، على سبيل المثال، نظّمت وأدارت عملية توزيع ما يزيد عن ملياريّ ليرة لبنانية خلال الأعوام الثلاثة الماضية كمساعدات للعائلات الفقيرة، وتأمين المازوت أو الحطب قبل فصل الشتاء، ومثلها فعلت معظم بلديات الشوف وعاليه. وبالرغم من افتقار هذه المبادرة الى صيغة قانونية تحكمها، لكنها احتضنت تنهيدة الفقراء قبل أن تصبح صرخة ألم، ومكَّنت المقيمين في تلك البلدات من تخطي الضائقة المالية باكتفاء.
وكانت قد وُلدت صناديق أخرى مشابهة في الشكل ومختلفة في المضمون، هي صناديق المولدات العامة، فمعظم بلديات الشوف وعاليه حصلت على مولدات كهربائية، كهبات عينية من جهات نافذة، لكنها امتنعت عن إدخال محاسبتها بموازناتها السنوية خوفاً من تخطي السقف المالي لتصنيفها، فتخرج من سلطة قانون أصول المحاسبة 5595، لتدخل في حكم قانون المحاسبة العمومية الذي يقيّد حرية الجهات الآمرة بالصرف فيها (الرئيس، والمجلس البلدي). لذلك اعتمدت طريقة الصناديق المستقلّة والخاضعة لإدارة البلدية بشكل مباشر.
وهنا، لا يُنكر رؤساء البلديات التفاف هذه المبادرة على القانون رقم 462 الصادر بتاريخ 2/9/2002 المتعلق بتنظيم قطاع الكهرباء، وعلى قانون الرسوم والعلاوات البلدية رقم 60/88 تاريخ 12/8/1988، لكنهم يؤكدون أنها كانت ضرورية ووفَّرت للناس البديل المقبول.
أمن بلدي
وبكونها النتاج الاجتماعي – الرسمي الوحيد الذي يمكن التعويل عليه «بالمَونة» لحلّ المشكلات بالسُّبُل المتاحة والمقبولة، رُمِيَت أزمة المياه كغيرها على كاهل البلديات، فعمد عدد منها الى حفر آبار جوفية، فيما جرَّت أخريات مياه الينابيع السطحية الى خزانات التجميع. ورغم ذلك بقيت أحياءٌ محرومة تضجّ بأصوات مولدات الضخّ، بانتظار فكرة محليّة تتحول الى حلّ حقيقيّ.
أما عن الشقّ الأمني، والذي يؤرق المواطن اللبناني اليوم أكثر من أي وقت مضى، فيمكننا القول أن بلديات الشوف وعاليه تلعب دوراً لابأس به في هذا المجال بالرغم من ضعف قدراتها المالية التي أدّت في كثير من الأحيان الى الاستعانة بشباب المجتمع المحلي للمساعدة دون مسوغ قانوني. وهنا لا بدّ من الإشارة الى الجهود التي قامت بها بلدية عماطور في منع إنشاء مخيم للنازحين السوريين في مرج بسري. فهذه المساحة الشاسعة التي تقع ضمن نطاق عماطور العقاري، والتي أصبحت مملوكة من وزارة الطاقة والمياه بعد صدور مرسوم استملاك مشروع سدّ بسري، كانت ساحة مشادّة مستمرّة بين البلدية ولاجئين سوريين حاولوا أكثر من مرّة تثبيت عدد كبير من الخِيَم. وانتهى الأمر بأن ابتكرت البلدية طريقة لاستغلال الأراضي من قبل لبنانيين من البلدة والبلدات المجاورة بصورة مؤقتة، تمنع توسّع الوجود السوري في المنطقة. ثم حذت حذوها بلديتا مزرعة الشوف وباتر المتاخمتان لحدود مرج بسري.
يبقى أن نقول أن من يتجوّل في شوارع وطرقات الشوف وعاليه يلاحظ الجهود الجبارة المبذولة لتذليل مشكلة النفايات، فالمبادرات التي أطلقتها اتحادات البلديات في القضاءين بإنشاء معامل لفرز ومعالجة النفايات أثمرت في البلدات التي لم تتعاقد مع شركة جمع النفايات المعتمدة في محافظة جبل لبنان. وخير دليل على نجاحها المعمل الذي أنشأه اتحاد بلديات الشوف الأعلى واستفادت منه اثنتا عشرة بلدية.
خلاصة بلا نهاية
لا يرى المراقبون أفقاً لحلّ شامل قريب، فانتظام العمل المؤسساتي في لبنان مقترن بعدة عوامل ما زالت مفقودة، لكن «وزارة الداخلية والبلديات قادرة على إيجاد الحلول الموضعيّة وقوننتها، وهي المرجع الوحيد للبلديات، فمن خلال عقد اجتماعات موسعة مع رؤساء البلديات، يمكن لوزير الداخلية استخلاص لائحة متطلبات، وبالتالي السعي لقوننة تنفيذها. المهم إقامة التوازن بين إنصاف البلديات واحترام القوانين». وهذا الرأي لوزير الداخلية والبلديات الأسبق العميد مروان شربل، الذي يؤكد أيضاً أن للقطاع الخاص دوراً بارزاً في مساعدة البلديات على تخطي الأزمات الحالية، ويدعو للتعاون بينها وبين مؤسسات المجتمع المدني.
في الخلاصة، وبنظرة إيجابية يمكننا القول أن اللبنانيين شعب لا يستكين، يخلقون من الأزمات فرصاً للانطلاق الى مستقبل عصيّ على المشكلات، والمثل في هذا، بلدية عاليه التي ما زالت حتى اليوم توفر مجموعة حوافز، وترعى افتتاح مصانع ومؤسسات تساهم في تقليص حجم البطالة. لكن على الرغم من كل الجهود التي تُبذَل، هل يمكن للبلديات أن تستمرّ متكئة على عصا تمديد آخر؟ أم أننا سنشهد في أيار المقبل – كحدّ أقصى- ولادة قيصرية تحضِّر لمستقبل مختلف؟